فصل: المسألة الثانية: (في التقليد في المسائل العقلية)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


الفصل الثاني في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي

وفيه ست مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حد التقليد والمفتي والمستفتي

أما التقليد فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده وفي الاصطلاح هو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك أما العلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل على ذلك في مقصد السنة وفي الإجماع وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها وقد وقع الإجماع على ذلك وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة فإنه قد الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الراوي بل قول من روى عنه إن كان ممن تقوم به الحجة‏.‏

وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد من الذي قبله‏.‏

وقال القفال هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أن قاله وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله وقيل هو قبول الغير دون حجة القول والأولى أن يقال هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم وأما المفتى فهو المجتهد وقد تقدم بينه ومثله قول من قال إن المفتى للفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول والمستفتى من ليس بمجتهد أو من ليس بفقيه وقد عرفت من حد المقلد على جميع الحدود المذكورة أن قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم والعمل به ليس من التقليد في شيء لأن قوله صلى الله عليه وسلم وفعله نفس الحجة‏.‏

قال القاضي حسين في التعليق لا خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين يسمى تقليدا وأما قبول قوله صلى الله عليه وسلم فهل يسمى تقليدا‏؟‏ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو‏؟‏ وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه وأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله وآله وسلم انتهى ولا يخفاك أن مراده بالتقليد هاهنا غير ما وقع عليه الاصطلاح‏.‏

ولهذا قال الروياني في البحر أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا ولم يرد حقيقة التقليد وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان قال والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم قال الزركشي في البحر وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ وبه صرح إمام الحرمين في التخليص حيث قال وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق انتهى وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح لا يشمل ذلك وهو المطلوب‏.‏

قال ابن الدقيق العيد إن الأنبياء لا يجتهدون فقد علمنا أن سبب أقوالهم فلا يكون تقليدا وإن قلنا إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين‏:‏ إما الوحي أو الاجتهاد وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة انتهى وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم والراجع إليه ليس بمقلد بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين انتهى‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ ‏[‏في التقليد في المسائل العقلية‏]‏

اختلفوا في المسائل العقلية وهي المتعلقة بوجود البارئ وصفاته هل يجوز التقليد فيها أم لا‏؟‏

فحكى الرازي في المحصول عن كثير من الفقهاء أنه يجوز وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف قال أبو الحسين بن يقطان لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء وقال إمام الحرمين في الشامل لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة‏.‏

وقال الإسفراييني لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله عز وجل وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده ولا يدري أهو صواب أم خطأ قال الأستاذ أبو منصور فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل فاختلفوا فيه فقال أكثر الأئمة إنه مؤمن من أهل الشفاعة وإن فسق بترك الاستدلال وبه قال أئمة الحديث وقال الأشعري وجمهور المعتزلة لا يكون مؤمنا حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين انتهى‏.‏

فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود وترجف عند سماعها الأفئدة فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن وإن فسق فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالايمان الجملي وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه‏.‏

قال الأستاذ أبو إسحاق ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب وإنما الغرض هو قول الله ورسول ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه وإنما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة قاطعة فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها حين لم يكله إلى النظر والاستدلال لا سيما العوام فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة انتهى ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجدها صحيحا فإن كثيرا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقض إيمانه وتنتقض منه عروة عروة فأن أدركته الألطاف الربانية نجا إلا هلك ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن يكون على دين العجائز ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له إطلاع على أخبار الناس‏.‏

وقد أنكر القشيري والشيخ أبو محمد الجويني وغيرهما من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي حسن الأشعري‏.‏

قال ابن السمعاني إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأحكام لم يفهموها وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقدوه ويلقي به ربه من العلماء يتبعهم في ذلك ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والأدغال ثم يعض عليها بالنواجذ فلا يحول ولا يزول لو قطع إربا فهنيئا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي توغلوها حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ودخلت عليهم الشبهات العظيمة فصاروا متحيرين ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمه قال ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر وإنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به الخلق وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطة الشنعاء والداء العضال وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها إلا العدد الشاذ الشارد النادر ولعله لا يبلغ عدد العشرة انتهى‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ ‏[‏في التقليد في المسائل الشرعية الفرعية‏]‏

اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا‏؟‏

فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد قال ونقل عن مالك أنه قال أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه وقال عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط‏.‏

قال ابن حزم فهاهنا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره انتهى ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه في حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله فالعجب من كثير من أهل الأصول حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة وقابل مذهب القائلين بعده الجواز بعض الحشوية وقال يجب مطلقا ويحرم النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على أنفسهم وعلى غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم والمذهب الثالث‏:‏ التفصيل وهو أنه يجب على العامي ويحرم على المجتهد‏.‏

وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أنه إنما يعتبر خلافه ولا سيما وأئمتهمم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس لا المقلدين فيالله العجب وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثرين وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد والمجوزون له من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ إلا السؤال عن حكم الله في المسألة لا عن آراء الرجال هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال كما زعموا وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏ ‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك وإن أراد إجماع من بعدهم فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور إذ لم يكن إجماعا وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع والحاصل أنه لم يأت من جوزه التقليد فضلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابهما قط ولا نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال بل أمرنا بما قاله سبحانه ‏{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏ أي كتاب الله وسنة رسوله وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فيما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ وأما ما ذكروه من استعباد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ذكروه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحث واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من الآيات ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏ ‏{‏إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏ وأمثال هذه الآيات‏.‏

ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال‏:‏ يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وان قال بغير علم قيل له فلم ارقت الدماء وابحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك بحجة فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علما‏؟‏ وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر انتهى‏.‏

قلت تتميما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر المرسل من الله تعالى إلى عباده المعصوم من الخطأ في أقوال وأفعاله فتقليده أولى من تقليده الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاد حجة على أحد من الناس‏.‏

واعلم أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم وتقليد غيرهم وقد عرفت حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي لا بالرواية ويتمسك بمحض الإجتهاد غير مطالب بحجة فمن قال إن رأى المجتهد يجوز لغيره التمسك به ويسوغ له يعمل به فيما كلفه الله فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله تعالى فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى لادعى من شاء ما شاء وقال من شاء بما شاء‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ ‏[‏هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده أو بمذهب إمام آخر‏؟‏‏]‏

اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده أو بمذهب إمام آخر‏.‏

فقيل لا يجوز وإليه ذهب جماعة من أهل العلم منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهم قال الصيرفي وموضوع هذا الاسم يعني المفتى لمن قام للناس بأمر دينهم وعلى حمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه يما استفتى‏.‏

قال ابن السمعاني المفتى من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل قال ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتى‏.‏

قال الرازي في المحصول اختلفوا في غير المجتهد هل يجوز له يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين فنقول لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أوحي فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيا وينعقد على موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها‏؟‏ قلت لفائدتين إحداهما‏:‏ استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيف بني بعضها على بعض والثانية معرفة المتفق عليه من المختلف فيه فلا يفتى بغير المتفق عليه انتهى وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات‏.‏

وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات‏.‏

قال الروياني في البحر إنه القياس وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد كمن تجدد فسقه بعد عدالته فإنه لا يبقى حكم عدالته وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال وأما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز وبهذا تعرف أن قول من قال بجوار فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ليس على إطلاقه وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتى بمذهب مجتهد من المجتهدين بشرط أن يكون ذلك المفتى أهلا للنظر مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به فلا يجوز وحكاه القاضي عن القفال ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين وليس كذلك ولعله يعني الأكثرين من المقلدين وبعضهم نسبه إلى الرازي وهو غلط عليه فإن اختياره المنع واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى‏.‏

قال الهندي وهذا القول بانعقاد الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون والمجمعون ليسوا بمجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال قال ابن دقيق العيد توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضى الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعه النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع شرائط الاجتهاد اليوم انتهى قلت وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن أما قوله يفضي إلى حرج عظيم الخ فغير مسلم فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه أو على لسان رسوله كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته وأما استدلاله على الجواز بقوله لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي الخ‏.‏

فمن أغرب ما يسمعه السامع لا سيما عن مثل هذا الإمام وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية وأي تأثير لظنون العامة الذين لا يعرفون الشريعة ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض‏}‏ وأما قوله مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة الخ فنقول نعم ذلك أمر ضروري فكان ماذا فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل وإن لم يعلمه أحال السؤال على رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يعلمه من أصحابه وكذا فيمن بعدهم ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا فيسأل علماء عصره كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ولا عما يقولون بمحض الرأي فإن قلت مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل قلت إذا كان مراده هذا فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة ويكون المسئول فيمن لا يجهله فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية أو نبوية ويدع السؤال عن مذاهب الناس ويستغني بمذهب إمامهم الأول وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إرسال علي للمقداد فهو إنما أرسله ليروى له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ وأين هذا مما نحن بصدده وأما قوله وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به‏.‏

وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة وإذا لم يدره فهو حاكم بالجهل ليس بحجة على أحد وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا وقال آخرون إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت قال الروياني والماوردي إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي فيه أوجه ثالثها إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز قال الروياني والماوردي والأصح أنه لا يجوز مطلقا لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ولو أفتى فإنه لا يجوز‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ ‏[‏في صفة المفتي الذي يسأله العامي‏]‏

إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمها من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلبا منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحان أوما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول انه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب‏.‏

وحكى في المحصول الاتفاق على المنع وشرط القاضي أخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالما في الجملة ولا يكفي خبر الواحد والاثنين وخالفه غيره في ذلك فاكتفوا بخبر عدلين وممن صرح بذلك صاحب فقال واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا كما قاله الأستاذ غير سديد واشترط القاضي وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المفترقة ومراجعته فيها فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهدا وذهب الوجيز قيل يقول له أمجتهد أنت وأقلدك‏؟‏ فإن أجابه قلده‏.‏

قال وهذا أصح المذاهب وجزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته لأن طريقه طريق الأخبار انتهى وإذا كان في البلد جماعة متصفون بهذه الصفة المسوغة للأخذ عنهم فالله فالمستفتى مخير بينهم كما صرح به عامة أصحاب الشافعي‏.‏

قال الرافعي وهو الأصح‏.‏

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا إنه يبحث عن الأعلم منهم فيسأله وقد سبقه إلى القول بذلك ابن شريح والقفال قالوا لأن الأعلم أهدى إلى أسرار الشرع وإذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فقيل هو مخير يأخذ بما شاء منها وبه قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشافعي وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والقاضي والآمدي‏.‏

واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل وقيل يأخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وقيل يأخذ بالأخف وقيل يبحث عن الأعلم منهم فيأخذ بقوله وهو قول من قال إنه يبحث عن الأعلم كما تقدم وقيل يأخذ بقول الأول حكاه الروياني وقيل يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي حكاه الرافعي وقيل يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه حكاه ابن السمعاني وقيل إن كان في حق الله أخذ بالأخف وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور وقيل إنه يسأل المختلفين عن حجتهما إن اتسع عقله لفهم ذلك فيأخذ بأرجح الحجتين عنده وإن لم يتسع عقله لذلك أخذ بقول المعتبر قاله الكعبي‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ ‏[‏هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة‏؟‏‏]‏

اختلف المجوزون للتقليد هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة‏؟‏

فقال جماعة منهم يلزمه ورجحه إلكيا وقال آخرون لا يلزمه ورجحه ابن برهان والنووي واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر‏.‏

وذكر بعض الحنبالة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل فإنه قال لبعض أصحابه لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا دعهم يترخصوا بمذاهب الناس وسئل عن مسألة من الطلاق فقال يقع يقع فقال له السائل فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز‏؟‏ قال نعم وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة من شاؤوا قبل ظهور المذاهب‏.‏

وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم انتهى وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون وأغرب ما يعتبر به المنصفون أما إذا التزم العامي مذهبا معينا فلهم في ذلك خلاف آخر وهو أنه هل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره فقيل لا يجوز وقيل يجوز وقيل إن يخالف قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز وقيل إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي وقيل إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصدا للتلاعب وأن لا يكون ناقضا لما قد حكم عليه به واختاره ابن دقيق العيد وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق واعترض عليهما بأن الخلاف جاز فيما ادعيا الاتفاق عليه أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي يفسق وقال ابن أبي هريرة لا يفسق قال الإمام أحمد بن حنبل لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقا‏.‏

وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخاله بفرضه وهو التقليد فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده وقال ابن عبد السلام ينظر إلى الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام وروى عنه أنه قال يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ومن قول أهل الكوفة النبيذ وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال دخلت على المعتضد فرفع إلى كتابا لطرق فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم فقلت مصنف هذا زنديق فقال لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب‏.‏

المقصد السابع من مقاصد هذا الكتاب في التعادل والترجيح

وفيه ثلاث مباحث‏:‏

المبحث الأول‏:‏ في معناهما وفي العمل بالترجيح وفي شروطه

أما التعادل فهو التساوي وفي الشرع استواء الأمارتين وأما الترجيح فهو إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحا ويقال مجازا لاعتقاد الرجحان وفي الاصطلاح اقتران الأمارة بما تقوى بها على معارضتها قال في المحصول الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر فيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طرفين لأنه لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما طرفين أو انفراد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطرف على ما ليس بطرف انتهى والقصد منه تصحيح الصحيح وإبطال الباطل‏.‏

قال الزركشي في البحر‏:‏ اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية قصدا للتوسع على المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه وإذا ثبت أن المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها فوجب الترجيح بينهما والعمل بالأقوى والدليل على تعيين الأقوى أنه تعارض دليلان أو أمارتان فإما أن يعملا جميعا أو يعمل بالمرجوح أو الراجح وهذا متعين قال أما حقيقته يعني التعارض فهو تفاعل من العرض بضم العين وهو الناحية والجهة كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض أي ناحيته وجهته فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجه وفي الاصطلاح تقابل الدليلين على سبيل الممانعة وللترجيح شروط‏:‏ الأول التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الدلالة الثاني التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر والآحاد بل يقدم المتواتر بالاتفاق كما نقله إمام الحرمين الثالث اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلا في وقت النداء مع الإذن به في غيره‏.‏

وحكى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين في الكتاب والسنة مذاهب‏:‏ أحدهما يقدم الكتاب لخبر معاذ وثانيهما تقدم السنة لأنها المفسرة للكتاب والمبينة له وثالثها التعارض وصححه واحتج عليه بالاتفاق وزيف‏.‏

الثاني بأنه ليس الخلاف في السنة المفسرة للكتاب بل المعارضة له وأقسام التعادل والترجيح بحسب القسمة العقلية عشرة لأن الأدلة أربعة الكتاب والسنة والإجماع فيقع التعارض بين الكتاب والكتاب وبين الكتاب والسنة وبين الكتاب والإجماع وبين الكتاب والقياس فهذه أربعة ويقع بين السنة والسنة وبين السنة والإجماع وبين السنة والقياس فهذه ثلاثة ويقع بين الإجماع والإجماع والقياس وبين القياسين فهذه ثلاثة الجميع عشرة‏.‏

قال الرازي في المحصول الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير والتوقف لنا وجوه‏:‏ الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة بوجوب الغسل عند التقاء الختانين على خبر الماء من الماء وقدموا خبر من روى من أزواجه أنه كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة أنه «من يصبح جنبا فلا صوم له» وقبل علي خبر أبي بكر ولم يحلفه وكان يقبل من غيره إلا بعد تحليفه وقبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لموافقة محمد بن مسلمة له وقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان لموافقة أبي سعيد الخدري له الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح على الراجح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بداهة العقل‏.‏

واحتج المنكر بأمرين‏:‏ أحدهما أن الترجيح لو اعتبر في الأمارات لاعتبر في البينات والحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هنا الثاني أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن نحكم بالظاهرة» يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني أن ما ذكرتموه دليل ظني وما ذكرناه قطعي والظني لا يعارض القطعي انتهى‏.‏

وما ذكره من الأحاديث هاهنا صحيح إلا حديث‏:‏ «ما رآه المسلمون حسنا» وحيث نحن نحكم بالظاهر فلا أصل لهما لكن هما صحيح وقد ورد في أحاديث أخر ما يفيد ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم للعباس لما قال له إنه خرج يوم بدر مكرها فقال‏:‏ «كان ظاهرك علينا» وكما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أقضى بما أسمع» وكما في أمره صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وذم من خرج عنها وأمره بلزوم السواد الأعظم ويجاب عما ذكره المنكرون بجواب أحسن مما ذكره أما عن الأول فيقال نحن نقول بموجب ما ذكرتم فإذا ظهر الترجيح لإحدى البينتين على الآخرى أولا حد الحكمين على الآخر كان العمل على الراجح وأما عن الثاني فيقال لا دلالة على محل النزاع في الآية بوجه من الوجوه وأما قوله نحن نحكم بالظاهر فلا يبقى الظاهر ظاهرا بعد وجود ما هو أرجح منه‏.‏

المبحث الثاني‏:‏ ‏[‏في التعارض بين دليلين قطعيين‏]‏

أنه لا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقا، سواء كانا عقليين أو نقليين هكذا حكى الاتفاق الزركشي في البحر قال الرازي في المحصول الترجيح لا يجوز في الأدلة اليقينية لوجهين‏:‏ الأول أن شرط اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازمة عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو وسائط شأن كل واحدة منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة‏:‏ الأول العلم الضروري بحقية المقدمات إما ابتداء أو انتهاء والثاني العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا فهو ضروري فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة وإذا علم ثبوتها امتنع التعارض الثاني الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقيني لا يقبل التقوية لأنه أن قارنة الاحتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية انتهى‏.‏

وقد جعل أهل المنطق شروط التناقض في القضايا الشخصية ثمانية اتحاد الموضوع والمحمول والإضافة والكل والجزء في القوة والفعل وفي الزمان والمكان وزاد بعض المتأخرين وهو اتحادهما في الحقيقة والمجاز نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى‏}‏ ورد هذا بعضهم بأنه راجع إلى وحدة الإضافة أي تراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى مجازا وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر ومنهم من رد الثمانية إلى ثلاثة الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان ومنهم من ردها إلى إثنين الاتحاد في الموضوع والمحمول والاندراج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول ومنهم من ردها إلى أمر واحد وهو الاتحاد في النسبة وهذه الشروط على هذا الاختلاف فيها لا يخص الضروريات وإنما ذكرناها هاهنا لمزيد الفائدة بها ومما لا يصح التعارض فيه إذا كان أحد المتناقضين قطعيا والآخر ظنيا لأن الظن ينتفي بالقطع بالنقيض وإنما يتعارض الظنيان سواء كان المتعارضان نقليين أو عقليين أو كان أحدهما نقليا والآخر عقليا ويكون الترجيح بينهما بما سيأتي‏.‏

وقد منع جماعة وجود دليلين ينصبهما الله تعالى في مسألة متكافئين في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح وقالوا لابد أن يكون أحدهما أرجح من الآخر في نفس الأمر وإن جاز خفاؤه على بعض المجتهدين ولا يجوز تعارضهما في نفس الأمر من كل وجه قال إلكيا وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء وبه قال العنبري وقال ابن السمعاني وهو مذهب الفقهاء ونصره وحكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل عن أحمد القاضي وأبو الخطاب من أصحابه وإليه ذهب أبو علي وأبو هاشم عن القاضي أبي بكر الباقلاني‏.‏

قال إلكيا وهو المنقول عن الشافعي وقرره الصيرفي في شرح الرسالة فقال قد صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أبدا حديثات صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده انتهى‏.‏

وفصل القاضي من الحنابلة بين مسائل الأصول فيمتنع وبين مسائل الفروع فيجوز وحكى الماوردي والرياني عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الآخر جائز وواقع وقال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور والغزالي وابن الصباغ الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على قول من قال إن المصيب في الفروع واحد وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فلا معنى لترجيح ظاهر على ظاهر لأن الكل صواب عنده واختاره الفخر الرازي وأتباعه أن تعادل الأمارتين على حكم في فعلين متابيين جائز واقع وأما تعارضهما متباينين في فعل واحد كالإباحة والتحريم فإنه جائز عقلا ممتنع شرعا‏.‏

واختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر فقيل أنه مخير وبه قال أبو علي وأبو هاشم ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي أبي بكر الباقلاني وقيل إنهما يتساقطان ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع المجتهد إلى عموم أو إلى البراءة الأصلية ونقله إلكيا عن القاضي ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وبه قطع ابن كج‏.‏

وأنكر ابن حزم نسبته إلى الظاهرية وقال إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطأ بل الواجب الأخذ بالزائد إذ لم يقدر على استعمالها جميعا وقيل إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما وإن كان بين قياسين فيخير حكاه ابن برهان في الوجيز عن القاضي ونصره وقيل بالوقف حكاه الغزالي وجزم به سليم الرازي في التقريب واستبعده الهندي إذ الوقف فيه لا إلى غاية وأمد إذ لا يرجى فيه ظهور الريب إن وإلا لم يكن من مسألتنا بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف إلى أن يظهر المرجح وقيل يأخذه بالأغلظ حكاه الماوردي والرياني وقيل يصير إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل إمارة على أمر حكاه الزركشي في البحر وقيل إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير وإن كان في الإباحة كالتحريم فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى وقيل يقلد عالما أكبر منه ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد وحكاه إمام الحرمين وقيل أنه كالحكم قبل ورود الشرع فتجيء فيه الأقوال المشهورة حكاه إلكيا الطبري فهذه تسعة مذاهب فيما كان متعارضا في نفس الأمر مع عدم إمكان الترجيح‏.‏

المبحث الثالث‏:‏ في وجوه الترجيح بين المعارضين لا في نفس الأمر بل في الظاهر

وقد قدمنا في المبحث الأول أنه متفق عليه ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح وقد سمي بعضهم هذا المخالف في العمل بالترجيح فقال هو البصري الملقب سحعل كما حكاه القاضي واستبعد الأنباري وقوع ذلك من مثله وعلى كل حال فهو مسبوق بالإجماع على استعمال الترجيح في كل طبقة من طبقات الإسلام وشرط القاضي في الترجيح شرط غير ما قد ذكرناه في المبحث الأول فقال لا يجوز العمل بالترجيح المظنون لأن الأصل امتناع العمل بشيء من الظنون وخرج من ذلك الظنون المستقلة بأنفسها لانعقاد إجماع الصحابة عليها وما وراء ذلك يبقى على الأصل والترجيح عمل بظن لا يستقل بنفسه وأجيب عنه بأن الإجماع انعقد على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كما انعقد على المستقل ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح‏.‏

قال في المحصول العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر انتهى وبه قال الفقهاء جميعا واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الاسناد وقد يكون باعتبار المتن وقد يكون باعتبار المدلول وقد يكون باعتبار أمر خارج فهذه أربعة أنواع والنوع الخامس الترجيح بين الأقيسة والنوع السادس الترجيح بين الحدود السمعية‏.‏

النوع الأول‏:‏ الترجيح باعتبار الإسناد

وله صور الصورة الأولى‏:‏ الترجيح بكثرة الرواة فيرجع ما رواته أكثر على رواته أقل لقوة الظن به وإليه ذهب الجمهور وذهب الشافعي في القديم إلى أنهما سواء وشبهه بالشهادات وبه قال الكرخي‏.‏

قال إمام الحرمين إن لم يمكن الرجوع إلى دليل آخر قطع باتباع الأكثر فإنه أولى من الإلغاء لأنا نعلم أن الصحابة لو تعارض لهم خبران هذه صفتهما لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذا قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة ظنية والاعتماد على ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر وفي المسألة قول رابع صار فيه القاضي والغزالي وهو أن الاعتماد على ما غلب ظن المجتهد قرب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة يقظته وضبطه انتهى‏.‏

وهذا صحيح لكن المفروض في الترجيح بالكثرة هو كون الأكثر من الرواة مثل الأقل في وصف العدالة ونحوها‏.‏

قال ابن الدقيق العيد وهو المرجح من أقوى المرجحات فإن الظن يتأكد عند ترادف الروايات ولهذا يقوى الظن إلى أن يصير العلم به متواترا انتهى أما لو تعارضت الكثرة من جانب والعدالة من الجانب الآخر ففيه قولان‏:‏ أحدهما ترجيح الكثرة وثانيهما ترجيح العدالة فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائةوقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أنه يرجع ما كانت الوسائط فيه قليلة وذلك بأن يكون إسنادا عاليا لأن الخطأ والغلط فيما كانت وسائطه أقل دون ما كانت وسائطه أكثر‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أنها ترجح رواية الكبير على رواية الصغير لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو أكثر ضبطا منه‏.‏

النوع الرابع‏:‏ ترجح رواية من كان فقيها على من لم يكن كذلك لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ‏.‏

النوع الخامس‏:‏ أنه ترجح رواية من كان عالما باللغة العربية لأنه أعرف بالمعنى ممن لم يكن كذلك‏.‏

النوع السادس‏:‏ أن يكون أحدهما أوثق من الآخر‏.‏

النوع السابع‏:‏ أن يكون أحدهما أحفظ من الآخر‏.‏

النوع الثامن‏:‏ أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر‏.‏

النوع التاسع‏:‏ أن يكون أحدهما متبعا والآخر مبتدعا‏.‏

النوع العاشر‏:‏ أن يكون أحدهما صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة‏.‏

النوع الحادي عشر‏:‏ أن يكون أحدهما مباشرا لما رواه دون الآخر‏.‏

النوع الثاني عشر‏:‏ أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي صلى الله عليه وسلم دون الآخر لأن المخالطة تقتضي زيادة في الاطلاع‏.‏

النوع الثالث عشر‏:‏ أن يكون أحدهما أكثر ملازمة للمتحدثين من الآخر‏.‏

النوع الرابع عشر‏:‏ أن يكون أحدهما قد طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم دون الآخر‏.‏

النوع الخامس عشر‏:‏ أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد التزكية فإنه ليس الخبر كالمعاينة‏.‏

النوع السابع عشر‏:‏ أن يكون أحدهما قد وقع الحكم بعدالته دون الآخر‏.‏

النوع الثامن عشر‏:‏ أن يكون أحدهما قد عدل مع ذكر أسباب التعديل والآخر عدل بدونها‏.‏

النوع التاسع عشر‏:‏ أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر‏.‏

النوع العشرون‏:‏ أن يكون المزكون لأحدهما أكثر بحثا عن أحوال الناس من المزكين للآخر‏.‏

النوع الحادي والعشرون‏:‏ أن يكون المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر لأن مزيد العلم له مدخل في الإصابة‏.‏

النوع الثاني والعشرون‏:‏ أن يكون أحدهما قد حفظ اللفظ فهو أرجح ممن روى بالمعنى أو اعتمد على الكتابة وقيل إن رواية من اعتمد على الكتابة أرجح من رواية من اعتمد على الحفظ‏.‏

النوع الثالث والعشرون‏:‏ أن يكون أحدهما أسرع حفظا من الآخر وأبطأ نسيانا منه فإنه أرجح إما لو كان أحدهما أسرع حفظا وأسرع نسيانا والآخر أبطأ حفظا وأبطأ نسيانا فالظاهر أن الآخر أرجح من الأول لأنه يوثق بما حفظه ورواه وثوقا زائدا على ما رواه الأول‏.‏

النوع الرابع والعشرون‏:‏ أنها ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من يتفرد عنهم في كثير من رواياته‏.‏

النوع الخامس والعشرون‏:‏ أنها ترجح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه‏.‏

النوع السادس والعشرون‏:‏ أنها تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة الثالثة من الآخر لأن ذلك يمنع من الكذب‏.‏

النوع السابع والعشرون‏:‏ أنها ترجح رواية من كان مشهور النسب على من لم يكن مشهورا لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر‏.‏

النوع الثامن والعشرون‏:‏ أن يكون أحدهما معروف الاسم ولم يلتبس إسمه باسم أحد من الضعفاء على من يلتبس إسمه باسم ضعيف‏.‏

النوع التاسع والعشرون‏:‏ أنها تقدم رواية من تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخا هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان والبيضاوي وقال الآمدي بعكس ذلك‏.‏

النوع الحادي والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية الذكر على الأنثى لأن الذكور أقوى فهما وأثبت حفظا وقيل لا تقدم‏.‏

النوع الثاني والثلاثون أنها تقدم رواية الحر على العبد لأن تحرزه عن الكذب أكثر وقيل لا تقدم‏.‏

النوع الثالث والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه‏.‏

النوع الرابع والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية من لم يختلف الرواة عليه على من اختلفوا عليه‏.‏

النوع الخامس والثلاثون‏:‏ أن يكون أحدهما أحسن استيفاء للحديث من الآخر فإنها ترجح روايته‏.‏

النوع السادس والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية من سمع شفاها على من سمع من وراء حجاب‏.‏

النوع السابع والثلاثون‏:‏ أن يكون أحد الخبرين بلفظ حدثنا أو أخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا ونحوه قيل ويرجح لفظ حدثنا على لفظ أخبرنا‏.‏

النوع الثامن والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية من سمع من لفظ الشيخ على رواية من سمع بالقراءة عليه‏.‏

النوع التاسع والثلاثون‏:‏ أنها تقدم رواية من روى بالسماع على رواية من روى بالإجازة‏.‏

النوع الأربعون‏:‏ أنها تقدم رواية من روى المسند على رواية من روى المرسل‏.‏

النوع الحادي والأربعون‏:‏ أنها تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما‏.‏

النوع الثاني والأربعون‏:‏ أنها تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه واعلم أن وجوه الترجيح كثيرة وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها‏.‏

‏[‏النوع الثاني‏:‏ المرجحات باعتبار المتن‏]‏

وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ أن يقدم الخاص على العام كذا قيل ولا يخفاك أن تقديم الخاص على العام بمعنى العمل به فيما تناوله والعمل بالعام فيما بقي ليس من باب الترجيح بل من باب الجمع وهو مقدم على الترجيح‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أنه يقدم الأفصح على الفصيح لأن الظن بأنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أقوى وقيل لا يرجح بهذا لأن البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أنه يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص كذا نقله إمام الحرمين عن المحققين وجزم به سليم الرازي وعللوا ذلك بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ ويصبر به مجازا قال الفخر الرازي لأن الذي قد خصص قد أزيل عن تمام مسماه واعترض على ذلك الصفي الهندي بأن المخصص راجح من حيث كونه خاصا بالنسبة إلى العام الذي لم يخصص لأن المخصوص قد قلت أفراده حتى قارب النص إذ كل عام لابد أن يكون نصا في أقل متناولاته‏.‏

النوع الرابع‏:‏ أنه يقدم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد على سبب كذا قال إمام الحرمين في البرهان وإلكيا والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وسليم الرازي في التقريب والرازي في المحصول قالوا لأن الوارد على غير سبب متفق على عمومه والوارد على سبب مختلف في عمومه قال الصفي الهندي ومن المعلوم أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت العامين فلا انتهى وفيه نظر لأن الخلاف في عموم الوارد على سبب هو كائن في سائر الأفراد‏.‏

النوع الخامس‏:‏ أنها تقدم الحقيقة على المجاز لتبادرها إلى الذهن هذا إذا لم يغلب المجاز‏.‏

النوع السادس‏:‏ أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك‏.‏

النوع السابع‏:‏ أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية قال في المحصول وهذا ظاهر في اللفظ الذي قد صار شرعيا لا فيما لم يكن كذلك كذا قال ولا يخفى أن الكلام فيما صار شرعيا لا فيما لا يثبت كونه شرعيا فإنه خارج عن هذا‏.‏

النوع الثامن‏:‏ أن يقدم ما كان مستغنيا عن الاضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه‏.‏

النوع التاسع‏:‏ أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالا على المراد من وجه واحد‏.‏

النوع العاشر‏:‏ أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة‏.‏

النوع الحادي عشر‏:‏ إنه يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة ما لم يكن معللا‏.‏

النوع الثاني عشر‏:‏ أنه يقدم ما ذكرت فيه العلة متقدمة على ما ذكرت فيه العلة متأخرة وقيل العكس‏.‏

النوع الثالث عشر‏:‏ أنه يقدم ما ذكر فيه معارضة على ما لم يذكر كقوله‏:‏ «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» على الدال على تحريم الزيارة مطلقا‏.‏

النوع الرابع عشر‏:‏ أنه يقدم المقرون بالتهديد على ما لم يقرن به‏.‏

النوع الخامس عشر‏:‏ أن يقدم المقرون بالتأكيد على ما لم يقرن به‏.‏

النوع السادس عشر‏:‏ أنه يقدم ما كان مقصودا به البيان على ما لم يقصد به‏.‏

النوع السابع عشر‏:‏ أن يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة وقيل بالعكس ولا يرجح أحدهما على الآخر والأول أولى‏.‏

النوع الثامن عشر‏:‏ أنه يقدم النهي على الأمر‏.‏

النوع التاسع عشر‏:‏ أنه يقدم النهي على الإباحة‏.‏

النوع العشرون‏:‏ أنه يقدم الأمر على الإباحة‏.‏

النوع الحادي والعشرون‏:‏ أنه يقدم الأقل احتمالا على الأكثر احتمالا‏.‏

النوع الثاني والعشرون‏:‏ أنه يقدم المجاز على المشترك‏.‏

النوع الثالث والعشرون‏:‏ أنه يقدم الأشهر في الشرع أو اللغة أو العرف على غير الأشهر فيها‏.‏

النوع الرابع والعشرون‏:‏ أنه يقدم ما يدل بالاقتضاء على ما يدل بالإشارة وعلى ما يدل بالإيماء وعلى ما يدل بالمفهوم موافقة ومخالفة‏.‏

النوع الخامس والعشرون‏:‏ أنه يقدم ما يتضمن تخصيص العام على ما يضمن تأويل الخاص لأنه أكثر‏.‏

النوع السادس والعشرون‏:‏ أنه يقدم المقيد على المطلق‏.‏

النوع السابع والعشرون‏:‏ أنه يقدم ما كان صيغة عمومه بالشرط الصريح على ما كان صيغة عمومه بكونه نكرة في سياق النفي أو جمعا معرفا أو مضافا ونحوهما‏.‏

النوع الثامن والعشرون‏:‏ أنه يقدم الجمع المحلى والاسم الموصول على اسم الجنس المعرف باللام لكثرة استعماله في المعهود فتصير دلالته أضعف على خلاف معروف في هذا وفي الذي قبله‏.‏

‏[‏النوع الثالث‏:‏ المرجحات باعتبار المدلول‏]‏

وأما المرجحات باعتبار المدلول‏:‏

فهي أنواع النوع الأول‏:‏ أنه يقدم ما كان مقررا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلا وقيل بالعكس وإليه ذهب الجمهور واختار الأول الفخر الرازي والبيضاوي والحق ما ذهب إليه الجمهور‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجع‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أنه يقدم المثبت على المنفى نقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء لأن مع المثبت زيادة علم وقيل يقدم النافي وقيل هما سواء واختاره في المستصفى‏.‏

النوع الرابع‏:‏ أنه يقدم ما يفيد سقوط الحد على ما يفيد لزومه‏.‏

النوع الخامس‏:‏ أنه يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلظ وقيل بالعكس‏.‏

النوع السادس‏:‏ أنه يقدم ما لا تعم به البلوى على ما تعم به‏.‏

النوع السابع‏:‏ أن يكون أحدهما موجبا لحكمين والآخر موجبا لحكم واحد فإنه يقدم الموجب لحكمين لاشتماله على زيادة لم ينقلها الآخر‏.‏

النوع الثامن‏:‏ أنه يقدم الحكم الوضعي على الحكم التكليفي لأن الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي من أهلية المكلف وقيل بالعكس لأن التكليفي أكثر مثوبة وهي مقصودة للشارع‏.‏

النوع التاسع‏:‏ أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد واعلم أن المرجح في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت‏.‏

‏[‏النوع الرابع‏:‏ المرجحات بحسب الأمور الخارجة‏]‏

وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا فيقدم القول لأن له صيغة والفعل لا صيغة له‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبادة على الإشارة‏.‏

النوع الرابع‏:‏ أنه يقدم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى بإصابة الحق وفيه لأنه لا حجة في قول الأكثر ولا في عملهم فقد يكون الحق في كثير من المسائل مع الأقل ولهذا مدح الله القلة في غير موضع من كتابه‏.‏

النوع الخامس‏:‏ أن يكون أحدهما موافقا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر فإنه يقدم الموافق وفيه نظر‏.‏

النوع السادس‏:‏ أن يكون أحدهما توارثه أهل الحرمين دون الآخر وفيه نظر‏.‏

النوع السابع‏:‏ أن يكون أحدهما موافقا لعمل أهل المدينة وفيه نظر أيضا‏.‏

النوع الثامن‏:‏ أن أحدهما موافقا للقياس دون الآخر فإنه يقدم الموافق‏.‏

النوع التاسع‏:‏ أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر فإنه يقدم‏.‏

النوع العاشر‏:‏ أنه يقدم ما فسره الراوي له بقوله أو فعله على ما لم يكن كذلك وقد ذكر بعض أهل الأصول مرجحات في هذا القسم زائدة على ما ذكرناه هاهنا وقد ذكرناها في الأنواع المتقدمة لأنها بها ألصق ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عموم وخصوص من وجه وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ فإن الأولى خاصة في الأختين عامة في الجمع بين الأختين في الملك أو بعقد النكاح والثانية عامة في الأختين وغيرهما خاصة في ملك اليمين وكقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في الصلاة المقتضية والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فإن علم المتقدم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخا عند من يقول إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم‏.‏

وأما من لا يقول ذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعا بالمرجحات المتقدمة وإذا استويا اسنادا ومتنا ودلالة رجع إلى المرجحات الخارجة وإن لم يوجد مرجح خارجي وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخير المجتهد في العلم بأحدهما أو يطرحهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد أو إلى البراءة الأصلية ونقل سليم الرازي عن أبي حنيفة أنه يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك‏.‏

قال ابن دقيق العيد في هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر وكأن مرادهم الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم ثم حكي عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص وكذلك إذا كان أحدهما مقصودا بالعموم رجح على ما كان عمومه اتفاقيا‏.‏

قال الزركشي في البحر وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما وكذلك نقول دلالة ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ على تحريم الجمع مطلقا في النكاح والملك أولى من دلالة الآية الثانية على جواز الجمع في ملك اليمين لأن هذه الآية ما سيقت لبيان حكم الجمع‏.‏

‏[‏النوع الخامس‏:‏ الترجيح بين الأقيسة‏]‏

وأما الترجيح بين الأقيسة فلا خلاف أنه لا يكون بين ما هو معلوم منها وأما كان مظنونا فذهب الجمهور إلى أنه يثبت الترجيح بينها وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة مطلوب وإذا لم يكن فيها مطلوب فلا طريق على التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق قال إمام الحرمين وهذه هفوة عظيمة ثم ألزمه القول بأنه لا أصل للاجتهاد‏.‏

قال الزركشي والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه عنه وقد عقد فصولا في التقريب في تقديم بعض العلل على بعض فعلم أنه ليس يعني إنكار الترجيح فيها وإنما مراده أنه يقدم نوع على نوع على الإطلاق بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما يظن المجتهد راجحا والظنون تختلف فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء يتأخر عن النوع الضعيف انتهى‏.‏

والترجيح بين الأقيسة يكون على أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ بحسب العلة‏.‏

النوع الثاني‏:‏ بحسب الدليل الدال على وجود العلة‏.‏

النوع الثالث‏:‏ بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم‏.‏

النوع الرابع‏:‏ بحسب دليل الحكم‏.‏

النوع الخامس‏:‏ بحسب كيفية الحكم‏.‏

النوع السادس‏:‏ بحسب الأمور الخارجة‏.‏

النوع السابع‏:‏ بحسب الفرع‏.‏

أما الترجيح بينها بحسب العلة‏:‏ فهو أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس العلة للإجماع بين أهل القياس على صحة التعليل بالمظنة فيرجح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنه يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يرجح المعلل حكمة بالوصف العدمي على المعلل حكمة بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة هكذا قال صاحب المنهاج واختاره وذكر إمام الحرمين الجويني في هذا احتمالين‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنه يرجح المعلل بالحكم الشرعي على غيره‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه يرجح المعلل بالتعدية على المعلل بالقاصرة قاله القاضي والأستاذ أبو منصور وابن برهان قال إمام الحرمين وهو المشهور فإنه أكثر فائدة وقال الأستاذ أبو إسحاق أنها ترجح القاصرة لأنها معتضدة بالنص ورجحه في المستصفى‏.‏

القسم السادس‏:‏ أنها ترجح العلة المتعدية التي فروعها أكثرعلى العلة المتعدية التي فروعها أقل لكثرة الفائدة قاله الاستاذ أبو منصور ورفعه صاحب المنخول وكلام إمام الحرمين يقتضي أ نه لا ترجيح بذلك‏.‏

القسم السابع‏:‏ أنها ترجح العلل البسيطة على العلل المركبة كذا قال الجدليون وأكثر الأصوليين إذ يحتمل في العلل المركبة أن تكون العلة فيها هي بعض الأجزاء لا كلها وأيضا البسيطة يكثر فروعها وفوائدها ويقل فيها الاجتهاد فيقل الغلط على ما في المركبة من الخلاف في جواز التعليل بها كما تقدم وقال جماعة المركبة أرجح قال القاضي في مختصر التقريب ولعله الصحيح وقال إمام الحرمين إن هذا المسلك باطل عند المحققين‏.‏

القسم الثامن‏:‏ أنها ترجح العلة القلية الأوصاف على العلة الكثيرة الأوصاف لأن الوصف الزائد لا أثر له في الحكم ولأن كثرة الأوصاف يقل فيها التفريع وقيل وهو مجموع على هذا المرحج بين المحققين من الأصوليين إذا كانت القليلة الأوصاف داخلة تحت الكثيرة الأوصاف فإن كانت غير داخلة مثل أن يكون أوصاف إحداهما غير أوصاف الأخرى فاختلفوا في ذلك فقيل ترجح القليلة الأوصاف وقيل الكثيرة الأوصاف‏.‏

القسم التاسع‏:‏ أنه يرجح الوصف الوجودي على العدمي وكذا الوصف المشتمل على وجوديين على الوصف المشتمل على وجودي وعدمي كذا في المحصول‏.‏

القسم العاشر‏:‏ أنها ترجح العلة المحبوسة على الحكمية وقيل بالعكس‏.‏

القسم الحادي عشر‏:‏ أنها ترجح العلة التي مقدماتها قليلة على العلة التي مقدماتها كثيرة لأن صدق الأولى وغلبة الظن بها أكثر من الأخرى وقيل بالعكس وقيل هما سواء‏.‏

القسم الثاني عشر‏:‏ أنها ترجح العلة المشتملة على صفة ذاتية على العلة المشتملة على صفة حكمية وقيل بالعكس ورجحه ابن السمعاني‏.‏

القسم الرابع عشر‏:‏ أنها ترجح العلة الموجبة للحكم على العلة المقتضية للتسوية بين حكم وحكم الإجماع على جواز التعليل بالأولى بخلاف الثانية ففيها خلاف وقال أبو سهل الصعلوكي إن علة التسوية أولى لكثرة الشبه فيها‏.‏

وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على وجود العلة فهو على أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ أنها تقدم المعلومة سواء كان العلم بوجدها بديهيا أو ضروريا على العلة التي ثبت وجودها بالنظر والاستدلال كذا قال جماعة وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجري الترجيح بين العلتين المعلومتين إذا كانت إحداهما معلومة بالبداهة والأخرى بالنظر والاستدلال‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنها ترجح العلة التي وجودها بديهي على العلة التي وجودها أجلي وأظهر عند العقل فهو أرجح مما لم يكن كذلك‏.‏

وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم فهو على أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالدليل القاطع على العلة التي لم يثبت عليتها بدليل قاطع وخالف في ذلك صاحب المحصول ولا وجه لخلافه‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنها ترجع العلة التي ثبت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبت عليتها بغيره من الأدلة التي ليست بنص ولا ظاهر‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبت عليتها بالشبة والدوران لقوة المناسبة واستقلالها بإثبات العلية وقيل بالعكس ولا وجه له‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنها ترجح العلة الثابتة عليتها بالمناسبة على العلة الثابتة عليتها بالسبر وقيل بالعكس قيل وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع فإن العلم به متعين لوجوب تقديم المقطوع على المظنون بل الخلاف في المظنون‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه ترجح ما كان من المناسبة ثابتا بالضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية‏.‏

القسم السابع‏:‏ أن يقدم ما كان من المناسبة معتبرا نوعه في نوع الحكم على ما كان منها معتبرا نوعه في جنس الحكم وعلى ما كان منها معتبرا جنسه في نوع الحكم وعلى ما كان منها معتبرا جنسه في جنس الحكم ثم يقدم المعتبر نوعه في جنس الحكم والمعتبر جنسه في نوع الحكم على المعتبر جنسه في جنس الحكم‏:‏ قال الهندي‏:‏ الأظهر تقديم المعتبر نوعه في جنس الحكم على علته‏.‏

القسم الثامن‏:‏ أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالدوران على الثابتة عليتها بالسبر وما بعده وقيل بالعكس‏.‏

القسم التاسع‏:‏ أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالشبه على العلة الثابتة عليتها بالضرورة قال البيضاوي وكذا ترجح على العلة الثابتة عليتها بالإيماء وادعى في المحصول اتفاق الجمهور على أن ما ثبت عليته بالإيماء راجح على ما ثبت عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان قال الصفي الهندي هذا ظاهر إن قلنا لا تشترط المناسبة في الوصف المومأ إليه وإن قلنا تشترط فالظاهر ترجيح بعض الطرق العقلية عليها كالمناسبة لأنها تستقل بإثبات العلية بخلاف الإيماء فإنه لا يستقل بذلك بدونها‏.‏

القسم الحادي عشر‏:‏ أنها تقدم العلة الثابتة بنفي الفارق على غيرها‏.‏

وأما الترجيح بحسب دليل الحكم فهو على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يقدم ما دليل أصله قطعي على ما دليل أصله ظني‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنه يقدم ما كان دليل أصله الإجماع على ما كان دليل أصله النص لأن النص بقبل التخصيص والتأويل والنسخ والإجماع لا يقبلها قال إمام الحرمين ويحتمل تقدم الثابت بالنص على الإجماع لأن الإجماع فرع النص لكونه المثبت له والفرع لا يكون أقوى من الأصل وبهذا جزم صاحب المنهاج‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يقدم القياس الذي هو مخرج من أصل منصوص عليه على ما كان مخرجا من أصل غير منصوص عليه قاله ابن برهان‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنه يقدم القياس الخاص بالمسألة على القياس العام الذي يشهد له القواعد قاله القاضي‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه يقدم ما كان على سنن القياس على ما لم يكن كذلك‏.‏

القسم السادس‏:‏ أنه يقدم ما دل دليل خاص على تعليله دون ما لم يكن كذلك‏.‏

القسم السابع‏:‏ أنه يقدم ما لم يدخله النسخ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف والحاصل أنه يقدم ما كان دليل أصله أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة‏.‏

وأما المرجحات تحسب كيفية الحكم فهي على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يقدم ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته مقررة كما قاله الغزالي وابن السمعاني وغيرهما لأن الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة لم تثبت شيئا وقيل إن المقررة أولى لاعتضادها بحكم العقل المستقل بالنفي لولا هذه العلة الناقلة قال الأستاذ أبو منصور ذهب أكثر أصحابنا إلى ترجيح الناقلة عن العادة وبه جزم إلكيا لأن الناقلة مستفادة من الشرع والأخرى ترجع إلى عدم الدليل فلا معارضة بينهما وقيل هما مستويان لأن النسخ بالعلل لا يجوز‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنه يقدم ما كانت علته مثبتة على ما كانت علته نافية كذا قال الأستاذ أبو إسحاق وغيره قال الغزالي قدم قوم المثبتة على النافية وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالاثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه في الناقلة والمقررة وقال الأستاذ أبو منصور الصحيح أن الترجيح في العلة لا يقع بذلك لاستواء المثبت والنافي في الافتقار إلى الدليل قال وإلى هذا القول ذهب أصحاب الرأي‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يقدم ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة قال ابن السمعاني وهو الصحيح وقيل وقيل هما سواء‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أن يكون أحدهما يقتضي حدا والآخر يسقطه فالمسقط أقدم‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أن يكون أحدهما يقتضي العنف والآخر يسقطه فالمقتضى للعنف أقدم وقيل هما سواء‏.‏

القسم السادس‏:‏ أن يكون أحدهم مبقيا للعموم لأنه كالنص في وجوب استغراق الجنس ومن حق العلة أن لا ترفع النص فإذا أخرجت ما اشتمل عليه العام مخالفة للأصول التي يجب سلامتها عنه كذا قال القاضي في التقريب وحكى الزركشي عن الجمهور أن المخصصة له أولى لأنها زائدة‏.‏

وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة‏:‏ فهي على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يقدم القياس الموافق للأصول بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع على ما كان موافقا لأصل واحد لأن وجود العلة في الأصول الكثيرة دليل على قوة اعتبارها في نظر الشرع هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما وقيل هما سواء وجزم بالأول الأستاذ أبو منصور ورفعه الغزالي‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنه يقدم ما كان حكم أصله موافقا للأصول على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول واختلاف في الثاني‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يرجع ما كان مطردا في الفروع بحيث يلزم الحكم به في جميع الصور على ما لم يكن كذلك‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنه يرجع ما انضمت إلى علته علة أخرى على ما لم ينضم إليه علة أخرى لأن ذلك الانضمام يزيد قوة وقيل للترجيح بذلك وصححه أبو زيد من الحنفية‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه يقدم ما انضم إليه فتوى صحابي على ما لم يكن كذلك وهو مبني على الخلاف المتقدم في حجية قول الصحابي‏.‏

وأما المرجحات بحسب بالفرع‏:‏ فهي على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يقدم ما كان مشاركا في عين الحكم ووعين العلة على المشارك في جنس الحكم وعين العلة أو عين الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وحني العلة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أنه يقدم ما كان مشاركا في عين الحكم وجنس العلة أو عين العلة وجنس الحكم على المشارك في جنس الحكم وجنس العلة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يقدم المشارك في عين العلة وجنس الحكم على المشارك في عين الحكم وجنس العلة لأن العلة هي العمدة في التعدية‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنه يقدم ما كان مقطوعا بوجود علته في الفرع على المظنون وجودها فيه‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه يقدم ما كان حكم الفرع ثابتا فيه جملة لا تفصيلا وقد دخل بعض هذه المرجحات الترجيح فيما تقدم لصلاحيتها هنالك وهاهنا لذكر ذلك فيه‏.‏

‏[‏النوع السادس‏:‏ المرجحات بين الحدود السمعية‏]‏

وأما المرجحات بين الحدود السمعية فهي على أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أنه يرجح الحد المشتمل على الألفاظ الصريحة الدالة على المطلوب بالمطابقة أو التضمن على الحد المشتمل على الألفاظ المجازية أو المشتركة أو الغربية أو المضطربة وعلى ما دل على المطلوب بالالتزام لأن الأول قريب إلى الفهم بعيد عن الخلل والاضطراب‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يكون أحدهما أعرف من الآخر فإنه يقدم الأعرف على الأخفى لأنه أدل على المطلوب من الأخفى‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أنه يقدم الحد المشتمل على الذاتيات على المشتمل على العرضيات لإفادة الأول تصور حقيقة المحدود دون الثاني‏.‏

القسم الرابع‏:‏ أنه يقدم ما كان مدلوله أعم من مدلول الآخر لتكثير الفائدة وقيل بل يقدم الأخص للاتفاق على ما تناوله‏.‏

القسم الخامس‏:‏ أنه يقدم ما كان موافقا لنقل الشرع واللغة على ما لم يكن كذلك لكون الأصل عدم النقل‏.‏

القسم السادس‏:‏ أنه يقدم ما كان أقرب إلى المعنى المنقول عنه شرعا أو لغة‏.‏

القسم السابع‏:‏ أنه يقدم ما كان طريق اكتسابه أرجح من طريق اكتساب الآخر لأنه أغلب على الظن‏.‏

القسم الثامن‏:‏ أنه يقدم ما كان موافقا لعمل أهل مكة والمدينة ثم ما كان موافقا لأحدهما‏.‏

القسم التاسع‏:‏ أنه يقدم ما كان موافقا لعلم الخلفاء الأربعة‏.‏

القسم العاشر‏:‏ أنه يقدم ما كان موافقا للإجماع‏.‏

القسم الحادي عشر‏:‏ أنه يقدم ما كان موافقا لعمل أهل العلم‏.‏

القسم الثاني عشر‏:‏ أنه يقدم ما كان مقررا لحكم الحظر على ما كان مقرر الحكم الإباحة‏.‏

القسم الثالث عشر‏:‏ أنه يقدم ما كان مقررا لحكم النفي على ما كان مقررا لحكم الإثبات‏.‏

القسم الرابع عشر‏:‏ أنه يرجع ما كان مقررا لإسقاط الحدود على ما كان موجبا لها‏.‏

القسم الخامس عشر‏:‏ أنه يقدم ما كان مقررا لإيجاب العتق على ما لم يكن كذلك وفي غالب هذه المرجحات خلاف يستفاد من مباحثه المتقدمة في هذا الكتاب ويعرف به ما هو الراجح في جميع ذلك وطرق الترجيح كثيرة جدا وقد قدمنا أن مدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية فما كان محصلا لذلك فهو مرجح معتبر‏.‏

خاتمة لمقاصد هذا الكتاب

اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكما أولا وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ويحكم فيها كصفات الكمال والنقص وملاءمة الغرض ومنافرته وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمس أقسام الأول‏:‏ الوجوب كقضاء الدين والثاني‏:‏ التحريم كالظلم والثالث‏:‏ الندب كالإحسان والرابع‏:‏ الكراهة كسوء الأخلاق والخامس‏:‏ الإباحة كتصرف المالك في ملكه‏.‏

وهاهنا مسألتان‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه الإباحة أو المنع أو الوقف‏؟‏

فذهب جماعة من الفقهاء وجماعة من الشافعية ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع‏.‏

وذهب الأشعري وأبو بكر الصيرفي وبعض الشافعية إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هنا حكم أم لا وصرح الرازي في المحصول أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع‏.‏

احتج الأولون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏ فإنه أنكر على من حرم ذلك فوجب أن لا تثبت حرمته وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده لثبتت الحرمة في زينة الله وفي الطيبات من الرزق وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة واحتجوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات‏}‏ وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها واحتجوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة‏}‏ الآية فجعل الأصل الإباحة والتحريم مستثنى وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه‏}‏ وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم على السائل من أجل مسألته» وبما أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والخبز والفراء قال الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏.‏

واحتجوا أيضا بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع فوجب أن لا يمتنع كالاستضاءة بضوء السراج والاستظلال بظل الجدار ولا يرد على هذا الدليل ما قيل إنه يقتضي إباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها ووجه عدم وروده أنه قد وقع الإحتراز عنه بقوله ولا على المنتفع ولا انتفاع بالمحرمات وبترك الواجبات لضرره ضررا ظاهرا لأن الله سبحانه قد بين حكمها وليس النزاع في ذلك إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه واحتجوا أيضا بأنه سبحانه إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة أو لغير حكمه والثاني باطل لقوله ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا‏}‏ والعبث لا يجوز على الحكمة فثبت أنها مخلوقة لحكمة ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون لعود النفع إليه سبحانه أو إلينا والأول باطل لاستحالة الانتفاع عليه عز وجل فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما هو يمنع منه لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه وذلك بأن ينهى الله عنه فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة‏.‏

وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد فصل لكم ما حرم عليكم‏}‏ وهذا خارج عن محل النزاع فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه أو حكم نوعه وأما ما قد فصل وبين حكمه فهو كما بينه بلا خلاف واحتجوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام‏}‏ قالوا فأخبر الله سبحانه أن التحريم والتحليل ليس إلينا وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه‏.‏

ويجاب عن هذا بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله كما تقدم فلا ترد هذه الآية عليهم ولا تعلق لها بمحل النزاع‏.‏

واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات» الحديث قال فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ترك ما بين الحلال والحرام ولم يجعل الأصل فيه أحدهما‏.‏

ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه بأن الله سبحانه قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الادلة وليس المراد بقوله وبينهما امور مشتبهات الا ما لم يدل الدليل على انه حلال طلق او حرام واضح بل تنازعه امران احدهما يدل على الحاقه بالحلال والآخر يدل على إلحاقه بالحرام كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه كما تقدم في حديث سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة فليرجع إليها واستدلوا أيضا بالحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» الحديث ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة ولا خلاف في تحريمها على الغير وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ولم تصرفي ملك أحد منهم وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله عز وجل على تحريمها إلا بدليل عام ولا خاص وكالنباتات التي تنبتها الأرض ما لم يدل دليل على تحريمها ولا كانت مما يضر مستعملة بل مما ينفعه‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ اختلفوا في وجوب شكر المنعم عقلا

فالمعتزلة ومن وافقهم أوجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع وخالف في ذلك جمهور الأشعرية ومن وافقهم لأنهم يقولون لا حكم للعقل كما تقدم تحقيقه قالوا وعلى تقدير التسليم لحكم العقل فلا حكم للعقل بوجوب شكر المنعم فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة لأنه لو وجب لوجب لفائدة واللازم باطل فالملزوم مثله وتقرير الملازمة أنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثا وهو قبيح فلا يجب عقلا ولا يجوز على الله سبحانه إيجاب ما كان عبثا وأما تقرير بطلان اللازم فلأن الفائدة أما أن تكون لله تعالى أو تكون للعبد إما في الدنيا أو في الآخرة والكل باطل لأن الله سبحانه متعال ولأنه لا منفعة فيه للعبد في الدنيا لأنه تعب ومشقة عليه ولا حظ للنفس فيه وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية وأما انتفاع العبد به في الآخرة فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه وأجيب عن ذلك بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه‏.‏

وسند هذا المنع بأن فائدته للعبد في الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب وذلك للزوم الخطور على بال عاقل إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة وقتا بعد وقت أن المنعم قد ألزمه بالشكر كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم أنه مطالب له بالشكر عليها ومنع الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف فلا يتعين وأجيب عن هذا المنع بأنه غير متوجب لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية فذلك منع مجرد للسند وهو غير مقبول وعلى التسليم فيقال وإنه وإن لم يتعين وجود الخوف فهو على خطر الوجود بالشكر يندفع احتمال وجوده وهو فائدة جليلة ثم جاء الأشعرية بمعارضة لما ذكرته المعتزلة فقالوا ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك الله تعالى‏.‏

وأما لأنه كالاستهزاء وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم فتصدق عليه بلقمة فطفق يذكرها في المجامع وشكر عليها شكرا كثيرا مستمرا فإن ذلك يعد استهزاء من الشاكر بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب سبحانه وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع في غاية من السخف يندفعان بما قصه الله سبحانه علينا في الكتاب العزيز من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده وكرر ذلك تكريرا كثيرا فإن كان ذلك مطابقا للواقع سقط ما جاءوا به وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر فإن أولها وجوده ثم تكميل آلاته ثم إفاضة النعم عليه على اختلاف أنواعها فكيف يكون شكره عليها استهزاء‏.‏

وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة منهم ابن الهمام في تحريره فقال ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها يعني جملة الاستدلال والاعتراض ثم ذكر أن حكم المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه القبح الذي هو الكفران بالضرورة فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا وإذا ثبت الوجوب بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر علم عينها أولا ولو منعوا يعني الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن واتصاف الكفران بالقبح لم تصر مسألة على التنزل معنى والمفروض أنها مسألة على التنزل ثم ذكر أن انفصال المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملا على العمل الذي يتحقق به الشكر وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه وهو محل النزاع ثم قال وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء فيقضي منه العجب قال شارحه لغرابته وسخافته كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها انتهى‏.‏

ومن كان مطلعا على مؤلفات المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر فقالوا من رأى النعم التي هو فيها دقيقها وجليلها وتواتر أنواعها خشى أن لها صانعا بحق له الشكر إذ وجوب شكر كل منعم ضروري ومن خشي ذلك خاف ملاما على الإخلال وتبعه على الإخلال ضرر عاجل والنظر كاشف للحيرة دافع لذلك الخوف فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه وهو معنى الوجوب فإذا نظر زال ذلك الضرر فيلزمه فائدة الأمن من العقاب على التقديرين إما بأن يشكر وإما بأن يكشف له بالنظر أنه لا منعم فلا عقاب هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي‏.‏

وأما الوجوب الشرعي فلا نزاع فيه بينهم وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم وصرح أيضا بأنه سبب في زيادة النعم والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جدا وحاصلها فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة وفقنا الله تعالى لشكر نعمه ودفع عنا جميع نقمه‏.‏

قال المؤلف رحمه الله‏:‏ وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله ذنوبه‏.‏

وكان الفراغ منه يوم الأربعاء الرابع من شهر محرم سنة 1231 والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه تم‏.‏